الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة
.مسألة ما يحجر الرجل من الموات البعيد عن المدائن: قلت: فإن تحجر كثيرا وعمل اليسير؟ فقال: هو مثل الذي يتحجر اليسير ويؤخر عمله ينظر فيما يتحجر فإن كان قويا عليه وإنما أخر عمله لوقت تلين فيه الأرض عليه أو يرخص الأجراء أو ما أشبه ذلك مما يؤخر الناس أعمالهم إليه لمثله من العذر فذلك له، فإن رأى أنه أراد أن يتحجر على الناس ما لا يقوى على عمله فأراد أن يستحق كثير ما تحجر بقليل ما عمل وعمر فليس له إلا عمرانه، ويشرع الناس معه في فضل ذلك فيكون لمن عمره وقوي على عمله. قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة حسنة، وفيها اختلاف، حكى ابن حبيب في الواضحة أن الإمام القاضي ينظر فيما تحجر فإن كان به قوة علي عمارته من عامه أو ما قرب من عامه مثل السنتين والثلاث خلاه وإياه، وإلا منعه منه وأقطعه غيره، وقد حكى أشهب عن عمر بن الخطاب في ذلك حديثا أنه ضرب له، أجلا ثلاث سنين، وقد أنكر ابن القاسم في المدونة أن يكون سمع من مالك في ذلك شيئا، وبالله التوفيق. .مسألة التحجير للموات: قال محمد بن رشد: كذا وقعت هذه المسألة دون جواب عما سأله عنه من الفرق بين المسألتين، والفرق بينهما بيّن واضح، ولوضوحه وبيانه أمسك عن جوابه موبخا له على سؤاله عما لا يشكل، وذلك أن الإقطاع حكم من الإمام القاضي يستحق به المقطع ما أقطع إياه، والتحجير للموات ليس بإحياء له فيستحقه به إذ لا يستحق الموات إلا بالإحياء، لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أحيا أرضا مواتا فهي له» وبالله التوفيق. .مسألة استحق مواتا بعمله ثم تركه حتى صار إلى خراب: قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة، وقول سحنون معناه فيما بعد من العمران، وأما ما قرب منه فلا يبطل استحقاقه له بتركه إياه حتى يعود إلى حاله الأول، وقوله عندي صحيح على معنى ما في المدونة من أن ما قرب من العمران ليس لأحد أن يستحييه إلا بقطيعة من الإمام القاضي، لأن الإمام القاضي إذا أقطعه إياه صار بمنزلة ما اختط أو اشترى، وقد نص في المدونة على أنه ما استحق أصله بخطط أو شراء لا يزول ملكه عنه بتركه إياه حتى يعود إلى حالته الأولى، ولو أحيا القريب من العمران بغير إذن الإمام القاضي على مذهب من يرى أن ذلك له لبطل حقه فيه بتركه إياه حتى يعود إلى حاله الأولى إذ لا فرق بين القريب والبعيد على مذهب من لا يرى استئذان الإمام القاضي واجبا فيما قرب من العمران ولا فيما بعد منه. وقد روي عن سحنون أن من أحيا مواتا فلا يخرج عن ملكه بتعطيله إياه، وإن عمره غيره كان الأول أحق به، قال ابن عبدوس: قلت له: أو لا يشبه الصيد إذا ند من صائده؟ قال: لا. فيتحصل فيمن أحيا مواتا ثم تركه حتى عاد لحالته الأولى فأحياه غيره ثلاثة أقوال: أحدها أن الثاني أحق به في القريب والبعيد، والثاني أن الأول أحق به في القريب والبعيد، والثالث الفرق بين القريب والبعيد، ولا أعرف نص خلاف في أن من اشترى مواتا أو اختطه لا يزول ملكه عنه بتركه إياه حتى يعود إلى حالته الأولى، إلا أن الاختلاف يدخل في ذلك بالمعنى من مسألة الصيد يند من يد صائده فيستوحش ويصيده غيره، إذ قال محمد بن المواز فيه إن الثاني أحق به، ولم يفرق بين أن يكون الأول قد صاده أو ابتاعه، فيلزم مثل هذا في إحياء الموات، ويتحصل فيه أيضا ثلاثة أقوال: أحدها أن الأول أحق به، والثاني أن الثاني أحق به، والثالث الفرق بين أن يكون الأول أحياه أو اختطه أو اشتراه، فإن كان أحياه كان الثاني أحق به، وإن كان اختطه أو اشتراه كان الأول أحق به، ومحمد بن عبد الحكم يرى في الصيد أن الأول أحق به على كل حال، فيأتي فيه أيضا ثلاثة أقوال: أحدها أنه للأول على كل حال، والثاني أنه للثاني على كل حال، والثالث الفرق بين أن يكون الأول صاده أو ابتاعه. وقد يفرق بين الصيد والموات على مذهب محمد بن عبد الحكم بأن الصيد غلب صاحبه على بقائه بيده، والموات لم يغلب صاحبه على ترك عمارته إياه، فيتحصل في مجموع المسألتين خمسة أقوال: أحدها أن الأول أحق من الثاني في الصيد والموات، والثاني أن الثاني أحق من الأول في الصيد والموات، والثالث أن الأول أحق بالصيد والموات إن كان اشتراه، وأن الثاني أحق بهما إن كان الأول صاد الصيد أو أحيا الموات، والرابع الفرق بين الصيد والموات، فيكون الثاني أحق بالصيد، والأول أحق بالموات وهو الذي يأتي على ما حكاه ابن عبدوس، والخامس الفرق بينهما بضد ذلك، فيكون الثاني أحق بالموات، والأول أحق بالصيد، وإنما يكون الثاني أحق بالموات من الأول على قول من يراه أحق به منه حسبما بيناه إذا كانت المدة قد طالت بعد أن عاد إلى حالته الأولى، وأما إن أحياه الثاني بحدثان ما عاد إلى حالته الأولى فإن كان عن جهل منه بالأول فله قيمة عمارته قائمة لأن له في ذلك شبهة، وإن كان عن معرفة منه بالأول فليس له إلا قيمة عمارته منقوضة بعد يمين الأول: إن تركه إياه لم يكن إسلاما منه لحقه فيه، وإنه كان على إعادة عمارته، ولا يصدق إذا طالت المدة أنه لم يسلم حقه فيه وأنه كان على إعادة عمارته له، وبالله التوفيق. .مسألة مناصب الأرحية أرحية الأنهار أتقسم: قال: وسألته عن مناصب الأرحية أرحية الأنهار أتقسم؟ قال: نعم إذا انقسمت فكان فيما يصير للسهم منتفع، وهو موضع معتمل. قلت: فإن لم تنقسم وأراد أحد الشريكين أو أحد الورثة العمل وضعف الآخرون ماذا يحكم به على من ضعف منهم عن العمل؟ قال: يخير بين أن يقاومه حتى يحصل لأحدهما، أو يبيع معه إن دعا أحدهما إلى البيع يجبر على أحد الأمرين لابد. قلت: أرأيت إن دعا القوي إلى العمل أو إلى المقاومة ودعا الضعيف إلى البيع وقال: ضعفت عن العمل فكيف أقوى إن قاومتك على الاشتراء منك أيهما ترى أن يجبر؟ وهل فيها من شفعة إن باع أحدهما وهي مما لا ينقسم؟ قال: يجبر الشريك على البيع إذا دعا إلى ذلك شريكه وكره العمل والمقاومة كان قويا على العمل أو ضعيفا واجدا للثمن لو قاومه أو معدما، أيهم دعا إلى البيع أجبر له على ذلك شريكه إذا لم ينقسم، فإن باع أحدهما وهي مما لا ينقسم لم يكن له فيه شفعة، قال: والحكم بين الشريكين في إجبار أحدهما على البيع في كل ما لا ينقسم من الرقيق والدواب والأمتعة مثل ما وصفت لك من موضع الرحى. قال محمد بن رشد: المعنى في سؤاله عن مناصب الأرحية هل تقسم إنما هو في منصب الرحى الواحدة الخربة هل تقسم بين النفر المشتركين فيه أم لا؟ وأما مناصب الأرحية ذوات العدد القائمة أو الخربة تكون بين النفر فلا اختلاف فيه ولا إشكال في أنها تقسم بينهم إذا اعتدلت في القسم فصار لكل واحد منهم رحى على حدة، فقوله في منصب الرحى أنه يقسم إذا كان فيما يصير للسهم منتفع وهو موضع معتمل معناه إذا صار لكل واحد منهم بالسهمة من منصب الرحى ما يمكنه أن يعمل فيه رحى، وما أرى ذلك يتفق، فإن اتفق جازت القسمة وحكم بها على مذهبه في الدار الواحدة أنها تقسم بين النفر إذا صار لكل واحد منهم منها موضع للسكنى، وكذلك الحمام الخرب يقسم بين النفر على مذهبه إذا صار في حظ كل واحد منهم منه ما يمكنه أن يعمل فيه حماما ولا يراعى في ذلك على مذهب ابن القاسم نقصان الثمن، وانظر هل يقسم على مذهب ابن القاسم الحمام القائم والرحى القائمة، وإن كان في قسمته إبطال لهما إذا كان كل واحد منهما يمكنه أن يعمل في حظه الذي يصير له من الرحى رحى وفي حظه الذي يصير له من الحمام حماما، والأظهر أن ذلك لا يجب على مذهبه، وقال مالك: إنه يقسم وإن لم يصر في حظ أحد إلا قدر قدم وما لا منفعة له فيه، ولم يتابعه على ذلك أحد من أصحابه إلا ابن كنانة، وقال ابن الماجشون: لا يقسم إلا أن يصير في حظ كل واحد منهم ما ينتفع به في وجه من وجوه المنافع، وإن قل نصيب أحدهم حتى كان لا يصير له بالسهمة إلا ما لا منفعة له فيه في وجه من وجوه المنافع لم يقسم، وقال مطرف: إن لم يصر في حظ واحد منهم ما ينتفع به لم يقسم، وإن صار في حظ واحد منهم ما ينتفع به قسم، دعا إلى ذلك صاحب النصيب القليل الذي لا يصير له في نصيبه ما ينتفع به أو صاحب النصيب الكثير الذي يصير له في حظه ما ينتفع به، وقيل: إنه لا يقسم إلا أن يدعو إلى ذلك صاحب النصيب القليل، وقيل: إنما يقسم إذا دعا إلى ذلك صاحب النصيب الكثير. وقوله في هذه الرواية إذا لم ينقسم المنصب ودعا أحد الشريكين إلى العمل وضعف الآخر عنه أنه يخير الذي ضعف عن العمل بين أن يقاومه حتى يحصل لأحدهما أو يبيع معه إن دعا أحدهما إلى البيع يجبر على أحد الأمرين لأنه كلام وقع على غير تحصيل، ففيه نظر، لأن الذي يوجبه الحكم إذا لم ينقسم أن يباع ويقسم الثمن بينهما، فمن دعا إلى ذلك منهما جبر صاحبه عليه وكان من حقه أن يأخذه بالثمن الذي يعطى فيه إن شاء، فإنما يخير الذي ضعف عن العمل أو أباه بين أن يقاوم صاحبه أو يبيع إذا دعاه صاحبه إلى المقاومة، وهذا بين من قوله في بقية المسألة. وقوله: فإن باع أحدهما وهي مما لا ينقسم لم يكن له فيه شفعة هو خلاف مذهبه في المدونة لأن له فيها أن الرحى إذا بيعت من أصلها فإن في الأرض والبيت الذي وضعت فيه الرحى الشفعة بما ينوبها من الثمن، وقوله إنه لا شفعة له في ذلك هو على قياس مذهبه في أن الشفعة لا تكون إلا فيما ينقسم لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فإذا وقعت الحدود فلا شفعة» لأن فيه دليلا على أن الشفعة لا تكون إلا فيما يقع فيه الحدود إذ لم يختلف قوله فيما عملت أنه لا شفعة فيما لا ينقسم بحال مثل النخلة أو الشجرة تكون بين النفر، فإنما أوجب الشفعة في الرحى على مذهبه في المدونة مراعاة لقول من يوجب فيها القسمة، وذهب مطرف إلى أن الشفعة في الأصول كلها وإن كانت مما لا ينقسم بحال كالنخلة أو الشجرة بين الرجلين لأنها من جنس ما ينقسم، وعلى ما في المدونة من مذهب ابن القاسم جرى العمل عندنا في الرحى ألا تقسم وأن تكون فيها الشفعة، وهو خلاف قول مالك في القسمة لأنه يوجبها، وخلاف أصل بن القاسم في الشفعة لأنها لا تجب على أصل مذهبه، وهو نص قوله في هذه الرواية، وبالله التوفيق. .مسألة البينة على من ادعى واليمين على من أنكر: قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لأن الأمر محمول على ما هو عليه أو على ما يعرف حتى تقوم البينة بخلافه، فإن عُرف أن البئر كانت في حجرته وفي غلقه فمن حقه أن يعيدها على ما كانت عليه إلا أن يثبت عليه أنه أباحها للناس إباحة مؤبدة، وإن لم يعرف أنها كانت في حجرته وتحت غلقه لم يكن له أن يحجر عليها ويدخلها تحت غلقه إلا أن يثبت أنها كانت في ملكه فأعارها للناس أو أرفقهم بالشرب منها مدة ما، فيكون من حقه أن يعيدها إلى ملكه، والأصل في هذا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» وبالله التوفيق. .مسألة الرحى تكون للرجل متقادمة فيريد رجل أن يحدث فوقها رحى أو تحتها: قال محمد بن رشد: هذا هو المشهور في المذهب، ومثله حكاه ابن حبيب في الواضحة عن ابن الماجشون، وحكي عن أصبغ أنه لا يمنع إلا أن يبطل عليه بذلك رحاه أو يمنعه من جل منفعتها، قال: لأن الانتفاع بالأنهار وحوز منافعها ليس بحق ثابت كحق ذي الخطة إذا بنى عليه في فنائه ما يضر به، وإنما هو كالموات، فإذا كان إن أنشأ الثاني رحاه انتفعا جميعا فلا يمنع، وإن أضر بالأول إلا أن يبطلها أو يذهب بجُل منفعتها، واحتج على ذلك بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سيل مهزور ومذينب «يمسك الأعلى حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل على الأسفل» فقال: ألا ترى لو أراد رجل أن ينشئ في حقه حائطا فوق حائط صاحبه لم يكن لصاحبه الأسفل حجة في أن يقول له لا تنشئ في حقك حائطا فوق حائطي لأنك إذا فعلت ذلك استأثرت بالماء علي حتى تسقي به حائطك فلا يأتيني منه إلا ما يفضل عنك، أو لعله لا يفضل عنك منه شيء لقلة الماء، هذا معنى قوله دون لفظه، ولا يلزم ابن القاسم ما احتج به عليه أصبغ من الحديث لأنه يخالفه في تأويله، ومعناه عنده إذا أنشأ الأعلى حائطه قبل الأسفل أو أنشأ حائطيهما معا، وأما إذا أنشأ الأسفل حائطه قبل الأعلى فلا يبدأ عنده الأعلى بالسقي عليه إلا أن يكون فيما يفضل عنه ما يكفي الأسفل، وذلك ظاهر من قوله في أول سماع أصبغ بعد هذا على ما سنبينه هناك إن شاء الله، وبه التوفيق. .مسألة إن تشاحا فليس لكل رجل إلا نصف النهر: قال الإمام القاضي: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها، ولا لبس في شيء من معانيها، ولا اختلاف في شيء من وجوهها، فلا معنى لتكلف القول فيما يستغنى عنه، وبالله التوفيق. .مسألة المسرح يكون لقوم من حوز منزلهم فيريد بعضهم حرثه ويأبى ذلك بعضهم: قال: وسألته عن المسرح يكون لقوم من حوز منزلهم فيريد بعضهم حرثه ويأبى ذلك بعضهم، أترى أن يترك مرعى أم يقسم؟ فقال: الذي يريد أخذ حقه أعذر من الذي يريد أن يبور أرضه للمرعى وأرض شريكه وهو كاره، فأرى أن تقسم، ثم يحرث من شاء، ويرعى من شاء في نصيبه. قال الإمام القاضي: هذا على ما تقدم من مذهب ابن القاسم في قسمة الشعراء في أول رسم هذا السماع، وقد مضى من القول على ذلك هنالك بيان ما يجب قسمته منها باتفاق إذا دعا إلى ذلك أحد الأشراك مما لا يجوز باتفاق ومما لا يجب إلا على اختلاف، والمسارح مقيسة على ذلك، وما وقع في سماع عبد الملك عن ابن وهب من أن المسارح لا تقسم وإنما تقسم الأرضون خلاف قول ابن القاسم هذا، وموضع اختلافهما إنما هو إذا كان المسرح خارجا عن أرض قريتهم هل يقسم بينهم على ما يدعونه من أنه مالهم وملكهم؟ وإذا كان بين القرى هل يقسم بينهم أيضا على ما يدعيه أهل كل قرية من أنه من حيّز قريتهم أم لا؟ وكذلك يختلف أيضا إذا كان بإزاء القريتين أو القرى هل يقسم بينهم إذا ادعوه؟ فقيل: إنه لا يقسم بينهم لما فيه من الحق لغيرهم ممن يمر به فيرعى فيه، وقيل: إنه يقسم بينهم بأن يأخذ أهل كل قرية منه ما كان بإزاء قريتهم فيقسمونه بينهم دون يمين إن اتفقوا أو بعد أيمانهم إن اختلفوا، وأما إن كان داخلا في أرض قريتهم أو خارجا عنها فثبت أنه مالهم وملكهم فلا اختلاف بينهم في وجوب قسمته بينهم، قيل: إذا دعا إلى ذلك بعضهم، وقيل: إذا دعا إلى ذلك جميعهم أو جلهم ومن إليه عماد أمرهم، والأول أظهر، والله أعلم. .مسألة أخذ نصيبه وأراد أن يقره مسرحا لماشيته أن يحميه من الناس ويبيع كلأه: قال الإمام القاضي: قد مضى تفصيل القول في حكم الكلأ وما يجوز من بيعه ومنعه، وموضع الاختلاف في ذلك والاتفاق فيه في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، والحكم في الحطب كالحكم في الكلأ سواء على التفصيل الذي ذكرنا فيه. وأما الماء فالكلام إنما هو في فضلته، فما كان في ملك الرجل منه فاختلف هل له أن يمنع فضلته من جاره فيما يريد من ابتداء الانتفاع أم لا على ثلاثة أقوال: أحدها أن له أن يمنعه إياها إلا بثمن يواجبه عليها، وجدلها ثمنا عند سواه أو لم يجد، وهو المشهور في المذهب، والثاني أنه ليس له أن يمنعه إياها إلا أن يجد لها ثمنا عند سواه، فإن لم يجد لها ثمنا عند سواه لم يكن له أن يحبسها عنه وهو لا يحتاج إليها، والقول الثالث أنه ليس له أن يمنعه إياها بحال، ولا أن يأخذ فيها ثمنا من أحد، وهو الذي ذهب إليه يحيى بن يحيى على ظاهر قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا يمنع نقع بئر ولا يمنع رهو ماء»، وهذا كله في العين أو البئر التي تكون في أرض الرجل ولا ضرر عليه في الدخول إلى الاستقاء منها، وأما البئر تكون في دار الرجل أو في حائطه الذي قد حظر عليه فله أن يمنع من الدخول عليه في ذلك، وقد مضى في رسم البراءة من سماع عيسى القول في منع الرجل فضلة مائه ممن يريد أن يسقي به شجرا أو نخلا قد تقدم غرسه لها فلا معنى لإعادة ذكر ذلك، ومضى في رسم الأقضية الأول من سماع أشهب حكم مياه آبار المواشي التي تحتفر في المهامه فلا معنى لإعادة ذكر ذلك أيضا، وأما النار فلا اختلاف في أنه لا يجوز لأحد أن يمنع من الاقتباس منه إذ لا ضرر عليه في ذلك، ولا يجوز لأحد أن يمنع أحدا ما ينتفع به إذا كان ذلك لا يضر به لنهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الضرر والضرار، وبالله التوفيق. .مسألة المسرح لأهل القرية التي هو في حوزها إن تداعى فيه أهل قريتين: قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله إن من كان يتخطى القرى إلى المسرح بماشيته فلا حق له فيه أي لا يقبل دعواه في أنه له مسرح ماشيته فيه، وإنما يقبل فيه دعوى من كان يتصل به من أهل القرى فيقسم بينهم على الاختلاف في ذلك حسبما مضى القول فيه في أول الرسم وفي قسمة الغامر في أول رسم من السماع، وبالله التوفيق. .مسألة يسكن القرية وليس له فيها إلا مسكنه فيعمر من غامرها أرضا ثم يريدون إخراجه: قلت: أتراه مثل ما يستحق الرجل بعمارته من دار رجل أجنبي وأرضه أو إنما تراه بحال الوارث أو المولى مع مواليه؟ فقال: ينظر السلطان فيه على قدر ما يعذر به أصحاب أصل الأرض في سكوتهم لما يعلم من افتراق سهامهم وقلة حق أحدهم لو تكلم فيه، فإنه يقول: منعني من الكلام سكوت أشراكي وقلة حقي، فلما خفت تطاول الزمان وما يحدث من دعوى الغامر تكلمت، فأراه أعذر من الذي يستحق عليه من خاصة داره أو خاصة أرضه شيء، ولا أبلغ به حد الورثة فيما بينهم ولا حد المولى الذي يرتفق في أرض مواليه أو الصهر في أرض أصهاره إلا أن يكون ذلك الغامر للرجل أو الرجلين أو النفر القليل فلا يعذرون بسكوتهم ويحملون فيما عمر جارهم من غامر أرضهم على ما يحمل عليه من جيز عليه من داره أو أرضه شيء، قال: وهم فيما يعمر بعضهم من غامرهم المشترك أعذر في السكوت وأوجب حقا وإن طال الزمان جدا. قال الإمام القاضي: حكم غامر القرية أن يصدق فيه أهل القرية أنه لهم على أصل سهامهم فيها، فإذا عمر منه شيئا من لا حق له فيه من غير أهل القرية أو ممن ليس له في القرية إلا مسكن بعينه أو حقل بعينه بحضرة أهل القرية كان حكمه حكم من حيز عليه ما له وهو حاضر لا يغير ولا ينكر إلا أنه رأى مدة الحيازة في ذلك على أهل القرية أطول من مدة الحيازة على الرجل الأجنبي لما يعذرون به من افتراق سهامهم وقلة حق كل واحد منهم ودون مدة الحيازة على الأوراث والأصهار، وفي حد ذلك اختلاف كثير سيأتي القول فيه في موضعه من سماع يحيى من كتاب الاستحقاق إن شاء الله، وإنما يستحق ما عمر بطول المدة التي ذكر إذا ادعى أنه إنما عمر ذلك باشتراء منهم أو هبة أو صدقة، وأما إذا لم يدع ذلك وأراد أن يستحق ما عمر بعمارته إياهم بحضرتهم فليس ذلك له، هذا الذي يأتي في هذه المسألة على قياس قول ابن القاسم في أن غامر القرية محمول على أنه لأهل القرية، ويأتي على قول ابن وهب ومن قال بقوله في أن غامر القرية لا يصدق أهل القرية أنه لهم ولا يقسم بينهم إلا أن يثبت أنه لهم أن يكون ما عمر لمن عمر بطول المدة التي ذكر بمجرد دعواه أنه له، وفي سماع عبد الملك بن الحسن من كتاب الاستحقاق من قول ابن وهب ما يدل على ما ذكرناه عنه، وقال في الرواية: إنهم إذا قاموا عليه قبل أن تطول المدة فلهم إخراجه، ولم يقل إذا أخرجوه هل يكون له قيمة بنيانه إن كان بنى قائما أو منقوضا، والذي يوجب النظر أن يكون له قيمة بنيانه قائما إن كانوا قاموا عليه بحدثان ذلك، وإن كانوا قاموا عليه بعد أن طالت المدة ولم تبلغ إلى الحد الذي يكون الحيازة فيه عليهم عاملة أن يكون له على مذهب ابن القاسم قيمة بنيانه منقوضا وعلى رواية المدنيين عن مالك قيمته قائما. وأما قوله في آخر المسألة: وهم فيما يعمر بعضهم من غامرهم المشترك أعذر في السكوت وأوجب حقا وإن طال الزمان جدا فمعناه أنهم يحملون في حد الحيازة محمل الأصهار والقرابة من أجل الاشتراك، وقد اختلف في ذلك، فذهب مطرف إلى أن الشركاء فيما حازه بعضهم على بعض بمنزلة الأجنبيين، وقال أصبغ: الشركاء فيما حازه بعضهم على بعض بمنزلة الأوراث والقرابة، هذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قوله: وإن طال الزمان جدا لأنه إذا كان الشريك يستحق على شريكه حظه من عامر قريته بطول الحيازة فأحرى أن يستحق عليه حظه من غامرها بذلك فيقول: إن معنى قوله وإن طال الزمان جدا أي طال حتى خرج عن الحد الذي يستحقه به الأجنبي ما لم يتجاوز الحد الذي تكون به الحيازة بين الأصهار والقرابة ولم يشترط سحنون في نوازله بعد هذا من هذا الكتاب هذا الحد من الطول فقال: إنه يكون لهم إذا كانوا قد عمروه وزرعوه زمانا بعلمهم فلم يرفعوا ذلك إلى السلطان، فهو خلاف مذهب ابن القاسم لأنه يرى سكوتهم إلى الحد الذي تكون فيه الحيازة بين الأجنبيين تبطل دعواهم، ورأى ابن القاسم سكوتهم إلى الحد الذي تكون فيه الحيازة بين القرابة يوجب أن يكون القول قول الحائزين في أن الذي حازوه انفردوا به دون أشراكهم، وبالله التوفيق. .مسألة تكون له الرحى فيبني تحتها رجل رحى فنقصت رحى الأول من طحينها: قلت له: إنهما يرتفقان جميعا، قال ابن القاسم: قد أضر به فيما صنع لأن رحاه كانت تطحن قبل أن يبني هذا طحينا غير هذا فليس ذلك له. قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في رسم المكاتب من سماع يحيى، وهو المشهور في المذهب، وخالف في ذلك أصبغ حسبما ذكرناه عنه هناك، وبالله التوفيق. .مسألة من له ماء يسقي به وفيه فضل عنه هل له أن يقطعه عن جيرانه: قال محمد بن رشد: كان القياس في هذه المسألة ألا يكون لصاحب الماء أن يقطع عنه فضلته وإن احتاج إليها لأنه قد أعطاه إياها، والمعنى في ذلك عندي إنما هو إذا لم يصرح له بعطية الفضلة، وإنما قال له: اغرس على فضل مائي أو خذ فضل مائي فاغرس عليه، فيكون من حقه أن يقول: إنما أردت أن يأخذه على سبيل العرية إلى أن أحتاج إليه أو طول ما أستغني عنه فيحلف على ذلك ويأخذه إذا احتاج إليه، وأما إذا صرح بالعطية أو بالهبة فقال: قد وهبتك فضل مائي أو قد أعطيتك إياه فلا يكون له أن يأخذه منه وإن احتاج إليه، ولو صرح بالعرية لكان له أن يرجع فيه إذا انقضت المدة التي أعاره إليها أو إذا مضى من المدة ما يرى أنه أعاره إليها إن كان لم يضرب له أجلا، وقد قال ابن أبي زيد: قوله بعطية يريد العرية لا التمليك، والعرية في هذا على التأبيد إلا أن يحتاج إليه إلا أن هؤلاء أنفقوا وغرسوا وهو يعلم، ولا ماء لهم غيره، فهذا كأنه تسليم والله أعلم، قاله ابن أبي زيد، وقال: أعرف نحوه لسحنون، وقد مضى في رسم البراءة من سماع عيسى زيادات في معنى هذه المسألة، وبالله التوفيق. .مسألة يحتظر على جنانه بجدار ويقطع عمن يرتفق بماء تلك العين ما كانوا يترفقون: قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة لا إشكال فيها ولا اختلاف في شيء من معانيها، فلا معنى لبيان ما لا يخفى من وجوهها، وبالله التوفيق.
|